الاختفاء القسري في غزة- مأساة مستمرة وإخفاق دولي متزايد

في خضم واحدة من أعقد وأشد الأزمات الإنسانية التي يشهدها العصر الحديث، أفاد مركز الدراسات السياسية والتنموية بأن عدد الأشخاص الذين فُقدوا في قطاع غزة قد تجاوز حاجز الـ 14 ألفاً منذ بداية الحرب الأخيرة.
ويُعتقد أن ما يتراوح بين ألفين إلى ألفين وخمسمائة فرد من هؤلاء الأشخاص قد تم اعتقالهم بشكل تعسفي على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية، وسط غياب تام لأي معلومات رسمية موثوقة تؤكد أماكن تواجدهم أو طبيعة أوضاعهم.
وعلى الرغم من أهمية هذه الإحصائيات، إلا أنها لا تزال غير مكتملة ولا يمكن اعتبارها دقيقة بشكل قاطع، وذلك نظراً للصعوبات الجمة التي تواجه عمليات التوثيق في ظل استمرار العدوان والقصف العنيف، فضلاً عن عدم وجود آليات رصد مستقلة ومحايدة.
إلا أن هذه الأرقام تعطي صورة عامة مدمرة ومقلقة حول حجم الكارثة الإنسانية، ومن المحتمل أن يكون العدد الفعلي للمفقودين أكبر من ذلك بكثير، لا سيما في المناطق التي تم عزلها بشكل كامل عن العالم الخارجي لأسابيع متتالية.
وبغض النظر عن حجم هذه الأرقام المتزايد، فإن مدلولها الرقمي لا يعكس بشكل كافٍ حجم المأساة الإنسانية الكامنة وراءها؛ فهي تجسد الواقع المرير الذي تعيشه العائلات، والتي تمزقها آمال ضئيلة في اللقاء بمن فقدوه، ويأس مستمر من صمت المجتمع الدولي.
تعيش آلاف العائلات في غزة لحظة بلحظة تحت وطأة سؤال مؤلم وبلا إجابة: "إلى أين ذهب أبناؤنا؟". ففي الشمال والجنوب على حد سواء، خلّف القصف المستمر أحياءً سكنية كاملة مدمرة، ولا تزال جثث العديد من الضحايا تحت الأنقاض، وسط عجز فرق الإنقاذ عن الوصول إليها، وغياب بنية طبية ولوجستية قادرة على التعامل مع حجم الكارثة.
وإلى جانب هذه المجازر المروعة، يبرز ملف في غاية الخطورة يتمثل في حالات الاختفاء القسري، حيث تؤكد شهادات الناجين وتقارير حقوقية محلية ودولية قيام قوات الاحتلال بتنفيذ عمليات اعتقال جماعي واسعة النطاق في مناطق مثل بيت حانون، ومخيم جباليا، وخان يونس، مستهدفة مدنيين من جميع الأعمار دون توجيه أي اتهامات رسمية أو إجراء محاكمات عادلة، وبعيداً عن أي رقابة قانونية أو إنسانية.
اختفت عائلات بأكملها دون أن يتركوا أثراً، في حين تواصل دولة الاحتلال رفضها تقديم أي معلومات عنهم، أو حتى السماح للجنة الدولية للصليب الأحمر بزيارتهم.
الاختفاء القسري، وفقاً للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2006، يُعد جريمة ضد الإنسانية إذا ارتُكب في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد السكان المدنيين، ولا تسقط هذه الجريمة بالتقادم.
وتنص المادة الأولى من الاتفاقية بوضوح على أنه "لا يجوز تعريض أي شخص للاختفاء القسري، ولا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق بحالة حرب أو تهديد بالحرب أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي أو بأي حالة استثنائية أخرى، لتبرير الاختفاء القسري".
إسرائيل ليست طرفاً في هذه الاتفاقية، إذ أنها لم تصادق عليها، مما يعكس غياب الالتزام القانوني لديها بموجب هذه المعاهدة تحديداً. ومع ذلك، فإن قواعد القانون الدولي العرفي، بالإضافة إلى القانون الدولي الإنساني، تحظر بشكل قاطع أعمال الاختفاء القسري، خاصة في سياق النزاعات المسلحة، وتعتبرها انتهاكاً خطيراً للحق في الحياة، والحرية، والكرامة الإنسانية.
إخفاق مجلس حقوق الإنسان في متابعة قضية المختفين قسرًا
إن تجربة تقرير غولدستون عام 2009 خير دليل على أن مجلس حقوق الإنسان قادر، متى توفرت الإرادة السياسية اللازمة، على تشكيل لجان تقصي حقائق جادة تضع الانتهاكات الإسرائيلية تحت مجهر القانون الدولي، حتى لو واجه ذلك مقاومة سياسية ودبلوماسية عنيفة.
فقد وثق التقرير حينها انتهاكات جسيمة ارتكبتها إسرائيل خلال عدوانها الغاشم على غزة، وطرح بجرأة احتمالية ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، مما شكل سابقة قانونية وأخلاقية هامة في إمكانية مساءلة الاحتلال أمام المجتمع الدولي.
واليوم، وبعد مرور أكثر من عقد ونصف العقد على تلك السابقة، يقف مجلس حقوق الإنسان أمام اختبار جديد لا يقل أهمية وخطورة، ألا وهو قضية المختفين قسراً في غزة.
إن هذا الملف لا يقل فظاعة عن القصف والتدمير الممنهج، بل يمثل وجهاً خفياً لجريمة مستمرة تُمارَس في الخفاء بعيداً عن أعين العالم.
هؤلاء المختفون قسراً ليسوا مجرد أرقام، بل بشر اقتيدوا إلى مصير مجهول، بينما تُترك عائلاتهم في حالة ترقب وانتظار مشحون بالألم، دون قبر يزورونه أو خبر يطمئنهم. قد يكون بعضهم معتقلاً خلف القضبان، أو مدفوناً تحت الأنقاض دون أن يُعرف مصيره، فمن يعلم؟
وعلى الرغم من أن المجلس قد شكل خلال السنوات الأخيرة لجانًا لتقصي الحقائق بشأن الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة، من بينها اللجنة الدائمة التي تأسست عام 2021، إلا أنه حتى الآن لم ينشئ لجنة متخصصة تعنى حصراً بملف الاختفاء القسري في غزة، على الرغم من خطورته القانونية والإنسانية الهائلة.
هذا الغياب لا يُفسَّر فقط بضعف الانتباه المؤسسي، بل يُعبّر بدرجة أكبر عن طبيعة المعركة السياسية الشرسة داخل المجلس، حيث تمرُّ قرارات تشكيل لجان التحقيق عبر آليات تصويت غالباً ما تُواجه بمعارضة شديدة من دول نافذة، تسعى جاهدة لحماية إسرائيل من المساءلة القانونية، أو على الأقل تقليص نطاق التحقيقات الدولية التي قد تُفضي إلى توجيه اتهامات خطيرة كجرائم ضد الإنسانية.
صحيح أن اللجنة الدائمة ذاتها، وعلى الرغم من كثافة المجازر المروعة في غزة، لم تُفعّل بالصورة التي تليق بحجم الانتهاكات الجسيمة، وربما اصطدمت برفض إسرائيل التعاون معها ومنعها من الوصول الميداني. وصحيح أيضاً أن عمل هذه اللجان، وإنْ تأسس على وقائع دقيقة وموثقة، يظل رهناً بإرادة الدول الأعضاء في مجلس حقوق الإنسان، والتي تُحدد ما إذا كانت تقاريرها ستُترجم إلى إجراءات ملزمة أم ستظل مجرد وثائق وصفية.
ولكن، ومع ذلك، فإن مجرد تشكيل لجنة وإعلانها رسمياً، يحمل في ذاته قيمة سياسية وقانونية رمزية كبيرة. فهو يُثبّت الوقائع في سجل دولي موثّق، ويكسر حاجز الصمت المطبق، ويُشكّل مرجعاً قانونياً يمكن البناء عليه لاحقاً في أي مسار للمساءلة، سواء في المحاكم الدولية، أو ضمن الآليات التعاقدية للأمم المتحدة، أو حتى في الرأي العام العالمي الذي بات أكثر وعياً وحساسية بعد كل جولة من جولات الصراع الدامي.
تُعتبر قضية الاختفاء القسري من أكثر الملفات حساسية وتعقيداً، إذ أنها لا تتعلّق فقط بانتهاك الحق في الحرية والحياة، بل ترتبط بجرائم مُمنهجة تُرتكب في الخفاء، الأمر الذي يجعلها محرجة سياسياً للعديد من الدول داخل مجلس حقوق الإنسان.
وعلى الرغم من تصاعد وتيرة الاعتقالات التعسفية خلال الاجتياحات البرية لشمال غزة وخان يونس، لا تزال هذه القضية غائبة عن جدول أعمال المجلس كمبادرة مستقلة، واقتصرت التحركات على جهود نبيلة تبذلها منظمات حقوقية فلسطينية ودولية.
وتواجه هذه الجهود عقبات جسيمة، من أبرزها تسييس آليات التحقيق الأممية، وصعوبة الوصول الميداني بفعل الحصار الخانق، بالإضافة إلى تشتيت الجهد الحقوقي في ظل تعدد الانتهاكات الجسيمة، مما يجعل ملف المختفين قسراً عرضة للتهميش والإهمال، على الرغم من طابعه الإنساني العميق.
أما على المستوى الفلسطيني، فإن دور السلطة الفلسطينية في هذا السياق لا يقل أهمية. إذ أنها تملك الصفة القانونية للتوجّه باسم "دولة فلسطين" إلى مجلس حقوق الإنسان والمطالبة بتشكيل لجنة تقصي حقائق متخصصة بهذا الملف الحساس.
وعلى الرغم من هذه الإمكانية المتاحة، لم تُسجّل حتى الآن أية مبادرة واضحة في هذا الاتجاه، مما يثير تساؤلات مشروعة حول غياب الإرادة السياسية الحقيقية أو الحسابات الدبلوماسية المعقدة التي قد تحول دون تفعيل هذه الأدوات القانونية الفعالة.
كما أن ضعف التنسيق المشترك بين المؤسسات الفلسطينية المعنية بالشأن الحقوقي، والانقسام الداخلي المرير، كلها عوامل ساهمت بشكل كبير في إضعاف الجهد الرسمي في هذا المجال الحيوي.
تُضاف إلى ذلك فرص قانونية ثمينة لم تُستثمر بالشكل الأمثل، مثل اللجوء إلى اللجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري التابعة للأمم المتحدة، أو دعم الجهود الحثيثة التي تبذلها المنظمات المستقلة التي تُطالب بآليات مساءلة فعالة.
إن غياب هذا الدور الفعال لا يؤدي فقط إلى تغييب هذا الملف الحساس من الأجندة الدولية، بل يُعمّق أيضاً من شعور العائلات المكلومة بالخذلان المرير، ويُبقي الاحتلال في دائرة الإفلات التام من العقاب.
إن استعادة منطق لجنة غولدستون وتفعيله اليوم من خلال إنشاء لجنة تحقيق مستقلة في ملف الاختفاء القسري والانتهاكات المصاحبة له، لم يعد ترفاً سياسياً، بل ضرورة قانونية وأخلاقية وإنسانية مُلحة. فالصمت المطبق على هذه الجريمة النكراء لا يُبقي المختفين قسراً في الظل فحسب، بل يَظلِم ذويهم، ويُفرّغ القانون الدولي من مضمونه، ويُكرّس معايير مزدوجة تقوض ثقة الشعوب بالعدالة الدولية.
إن هذا الصمت الدولي المريب، المقترن بغياب أي آلية مستقلة للتحقيق والمساءلة الفورية، يُسهم بشكل كبير في تعزيز ثقافة الإفلات من العقاب، ويفتح الباب على مصراعيه أمام تكرار هذه الجريمة الشنعاء في أماكن أخرى، دون أي رادع قانوني أو سياسي.
فعندما تُرتكب جريمة بهذا الحجم والوضوح، وتبقى دون تحقيق جاد، فإن ذلك يوجّه رسالة خطيرة مفادها أن حقوق الإنسان يمكن تجاهلها والتغاضي عنها متى تعارضت مع المصالح السياسية الضيقة.
في ظل هذه الظروف المأساوية، تبرز تساؤلات مشروعة ومُلحة لا يمكن تجاهلها أو الالتفاف عليها:
- لماذا لم تُفعّل الأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان على وجه الخصوص، آليات تحقيق جدية وفعالة في هذه الجريمة المتواصلة؟
- أين دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الكشف عن مصير المختفين؟
- من يتحمل المسؤولية الكاملة عن الصور المروعة التي وثّقت مشاهد إذلال جماعي لأشخاص أبرياء حفاة، معصوبي الأعين، يُساقون على يد جنود الاحتلال في ظروف مشينة تُنذر باحتمال تعرّضهم للتعذيب الوحشي أو التصفية الجسدية؟
إن تجاهل هذه الأسئلة المشروعة، أو الالتفاف عليها، لا يُضعف فقط حق هؤلاء الضحايا الأبرياء في معرفة الحقيقة وتحقيق العدالة المنشودة، بل يُقوّض أيضاً مبادئ القانون الدولي الراسخة نفسها. لذلك، فإن التحرك العاجل والفعال لتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة في ملف الاختفاء القسري في غزة لم يعد ترفاً أخلاقياً، بل ضرورة قانونية وإنسانية مُلحة لا تقبل أي تأجيل أو تسويف.